سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


قلت: {إبراهيم}: عطف على (نوح)، أو متعلق باذكر، و{وإذ قال}: ظرف زمان لأرسلنا، أو: بدل اشتمال من {إبراهيم}؛ إِنْ نُصِبَ باذكر، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جل جلاله: {وإِبراهيمَ} أي: وأرسلنا إبراهيم {إذ قال لقومه} أي: أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة: بالرفع. أي: ومن المرسلين إبراهيم، قال في وعظه: {اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم} مما أنتم عليه من الكفر، {إن كنتم تعلمون}؛ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
{إنما تعبدون من دون الله أوثاناً}؛ أصناماً {وتخلُقُون}: تختلفون وتكذبون، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي: {وَتُخَلِّقُونَ} بالكسر والشد. من خَلَّقَ؛ للمبالغة. {إفكاً}: وقرئ {أَفِكاً} بفتح الهمزة، وهو مصدر، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.
{إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً}: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، {فابتغوا عند الله الرزقَ} كُلَّه؛ فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غَيْرُهُ. {واعبدوه واشكروا له} أي: متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره {إليه تُرجعون} فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، {وإِن تُكذِّبوا} أي: تكذبوني {فقد كَذَّبَ أُمَمٌ من قبلكم} رُسُلَهم، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} الذي يزول معه الشك. والمعنى: وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم؛ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذابُ. وأما الرسول فقد أدى ما عليه حين بلغَ البلاغَ المبين، الذي لم يبق معه شك، حيث اقترن بآيات الله معجزاته. أو: وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كُذَّبُوا وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ، وما عليه أن يصدَّق ولايكذّب.
وهذه الآية من قوله: {وإِن تُكذِّبوا} إلى قوله: {فما كان جواب قومه}: يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأن قريش، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت؛ معترضة فيه؛ فلا تقول: مكة، وزيد قائم، خير بلاد الله؟ قلت: قد وقع الاتصال، وبيانه: أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به؛ من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: {وإِن تُكذِّبوا} يا معشر قريش محمداً، فقد كذب إبراهيمَ قومُه، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله: {فقد كذّب أمم مِن قبلكم} لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك، وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضح صحته وبرهانه.
قاله النسفي.
قال ابن جزي: {وإن تُكذِّبوا} يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم. اهـ.
الإشارة: قوله تعالى: {فابتغوا عند الله الرزق}؛ قال سهل رضي الله عنه: معناه: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب؛ فإن طلب بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله: اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري: وقدَّم ابتغاء الرزق؛ لتوقف القيام بالعبادة عليه، ثم أمر بالشكر على الكفاية. اهـ.


قلت: يقال: بدأ الله الخلق، وأبداه: بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله: {يُعيده}: عطف على الجلمة، لا على {يبدئ}؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها، لعدم النظر. وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون {ثم يعيده}: عطفاً على {يبدئ}.
يقول الحق جل جلاله: {أَوَلَم يروا} أي: كفار قريش {كيف يُبدىءُ اللهُ الخلقَ} أي: يظهره من العدم، أي: قد رأوا ذلك وعلموه، {ثم يُعيده} بالبعث؛ للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري: الذي دَاخَلَهم في الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق. اهـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف يعيد على يبدئ. {إن ذلك على الله يسيرٌ} أي: الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
{قُلْ سيروا في الأرض} أي: قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره: وأوحينا إليه أن قل: سيروا في الأرض، {فانظروا كيف بدأَ الخلقَ} على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم، تفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله: {ثم الله ينشىءُ النشأةَ الآخرةَ} أي: البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان: نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه؛ لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ الأولى هو الذي يُنشىء النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قال النسفي.
{إن الله على كل شيءٍ قديرٌ}؛ فلا يعجزه شيء. {يُعذِّب من يشاء} بعدله {ويرحم من يشاء} بفضله، أو: يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو: يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو: يُعذب بالتدبير والاختيار ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو: يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم بالإقبال عليه، أو: بالاستتار والتجلي، أو: بالقبض والبسط، أو بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك. {وإليه تقلبون}؛ تُردون للحساب والعقاب.
{وما أنتم بمعجزين} أي: بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، {في الأرض} الفسيحة، {ولا في السماء} التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها.
{وما لكم من دون الله من وليٍّ} يتولى أموركم، {ولا نصير}؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. {والذين كفروا بآيات الله}؛ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، {ولقائه}؛ وكفروا بلقائه، {أولئك يئِسُوا من رحمتي}؛ جنتي، {وأولئك لهم عذابٌ أليم} موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: أَوَلَمْ ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشأها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل شيء ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس. وبالله التوفيق.


قلت: {مودَّةَ بينكم}: مَنْ نَصَبَها: فله وجهان؛ أحدهما: على التعليل، أي لتوادوا بينكم، والمفعول الثاني محذوف، أي: اتخذتم أوثاناً آلهة. والثاني على المفعول الثاني لاتخذتم، كقوله: {اتخذ آلهه هواه} [الفرقان: 43]. و (ما): كافة، أي: اتخذتم الأوثان سَبَبَ المودَّةِ على حَذْفِ مضاف، أو: اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم. و{بينكم}: نصب على الظرفية؛ نعت لمودة، أي: حاصلة بينكم. ومن رفع: فله وجهان؛ إما خبر إن، و (ما) موصولة، أو: عن مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، و{بينكم}: مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله: {فما كان جوابَ قومه}؛ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله {إلا أن قالوا اقتلوه أو حَرِّقوه}، قاله بعضهم لبعض، أو: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعاً في الحكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه، {فأنجاه الله من النار} حين قذفوه فيها؛ بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
{إن في ذلك}؛ فيما فعلوه به وفعلناه {لآياتٍ} دالةً على عظم قدرته {لقوم يؤمنون}؛ لأنهم المنتفعون بالفصح عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها؛ لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
{وقال} إبراهيمُ لقومه: {إِنما اتخذتم من دون الله أوثاناً}؛ أصناماً آلهة {مودَّةَ بينكم في الحياة الدنيا} أي: لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا؛ لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها كما تتفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو: إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو: إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} أي: تتبرأ الأصنام من عابديها؛ كقوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]. {ويعلن بعضُكم بعضاً}، فتلعن الأتباعُ الرؤساء:؛ {ومأواكم النار} أي: مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. {وما لكم من ناصرين} يحصنونكم منها.
الإشارة: الإنكار على أهل الخصوصية سنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة؛ {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، وهم المتحابون في الله، والمجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8